الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}.التفسير:عن وهب بن منبه قال: إن آدم صلى الله عليه وسلم لما أهبط إلى الأرض استوحش منها لما رأى من سعتها، ولأنه لم ير فيها أحدًا غيره فقال: يا رب أما لأرضك عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري؟ فقال الله: إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي، وسأجعل فيها بيوتًا ترفع لذكري وسأبوئك منها بيتًا أختاره لنفسي وأخصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي وأسميه بيتي، أعظمه بعظمتي وأحوطه بحرمتي، وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض، أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرمًا وأمنًا أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله، فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي، ومن أحله فقد أباح حرمتي، ومن أمن أهله استوجب بذلك أماني، ومن أخافهم فقد جفاني، ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني، ومن تهاون به فقد صغر في عيني، سكانها جيراني، وعمارها وفدي، وزوارها أضيافي، أجعله أوّل بيت وضع للناس، وأعمره بأهل السماء والأرض، يأتونه أفواجًا شعثًا غبرًا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق، يعجون بالتكبير عجيجًا ويضجون بالتلبية ضجيجًا، فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زارني وضافني ووفد عليّ ونزل بي فحق علي أن ألحقه بكرامتي وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزواره وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته، تعمره يا آدم ما كنت حيًا ثم يعمره من بعدك الأمم في القرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرنًا بعد قرن ونبيًا بعد نبي حتى ينتهي بعد ذلك إلى نبي من ولدك يقال له محمد وهو خاتم النبيين فأجعله من عماره، وسكانه وحماته وولاته، يكون أميني عليه ما دام حيًا، فإذا انقلب إلي وجدني وقد ذخرت له من أجره ما يتمكن به من القربة إلي والوسيلة عندي وأجعل اسم ذلك البيت وشرفه وذكره ومجده وسناه ومكرمته لنبي من ولدك يكون قبل هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبوه يقال له إبراهيم، أرفع به قواعده وأقضي على يديه عمارته، وأعلمه مشاعره ومناسكه، وأجعله أمة واحدة قانتًا قائمًا بأمري داعيًا إلى سبيلي، أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم، أبتليه فيصبر وأعافيه فيشكر وآمره فيفعل وينذر لي فَيَفي، أستجيب دعاءه في ولده وذريته من بعده، وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وحماته وسقاته وخدمه وخزانه وحجابه حتى يبدلوا ويغيروا وأجعل إبراهيم إمام ذلك البيت وأهل تلك الشريعة، يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الخلق الجن والإنس.وروي أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد شرقي وغربي. وقال لآدم: أهبطت لك بيتًا يطاف به كما يطاف حول عرشي، فتوجه إليه آدم من أرض الهند ماشيًا وتلقته الملائكة فقالوا: برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة، فهو البيت المعمور. ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرفه جبرائيل مكانه. وعن علي عليه السلام: البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة لا يعودون فيه أبدًا.وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب وما مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلا شفي» وعن ابن عباس أنه كان أشد بياضًا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك. وأما قصة إسماعيل عليه السلام وأمه، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله: {إني سقيم} [الصافات: 89] وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء: 63] وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلمًا غيري وغيرك فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها فأتى بها وقام إبراهيم إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت، فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك، فعاد فقبضت يده أشد من القبضتين الأولتين فقال: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فأطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال له: إنك إنما جئتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر قال: فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم انصرف فقال: مهيم فقالت: خيرًا كفى الله يد الفاجر وأخدم خادمًا» قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء. قلت: وذلك أنها ملكتها سارة إبراهيم فولدت له إسماعيل أبا العرب. وأما تتمة القصة، بعد أن غارت سارة على هاجر حيث لم يكن لسارة من إبراهيم ولد فإنها ولدت إسحاق بعد ولادة هاجر إسماعيل بأربع عشرة سنة. فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أول ما اتخذت النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفَى إبراهيم منطلقًا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ولك مرارًا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا.ثم رجعت فانطلق إبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه فقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع} حتى بلغ {يشكرون} [إبراهيم: 37] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدًا ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلذلك سعى الناس بينهما». فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت صوتًا أيضًا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه- أو قال بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تحوّض وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد أن تغرف. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أم إسماعيل لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا». قال: فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتًا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء. فأرسلوا جريًا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا وأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس». فنزلوا وأرسلوا إلى أهاليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب الغلام، فلما أدرك الغلام زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة وشكت. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة قال: أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول: غير عتبة بابك.قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها. وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم أتاهم بعد ذلك فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه قالت: خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنعا ما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتًا هاهنا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} وعن علي كرم الله وجهه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم فانهدم فبنته العمالقة، ومر عليه الدهر فانهدم فبناه قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شاب، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا: يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه.واعلم أن للبيت أربعة أركان: ركنان يمانيان وركنان شاميان، وكان لاصقًا بالأرض، وله بابان شرقي وغربي فذكر أن السيل هدمه قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين فأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هي عليها اليوم، ولم يجدوا من النذور والهدايا والأموال الطيبة ما يفي بالنفقة فتركوا من جانب الحجر بعض البيت وخلفوا الركنين الشاميين عن قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وضيقوا عرض الجدار من الأسود إلى الشامي الذي يليه فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعًا وهو الذي يسمى الشاذروان، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة «لولا حدثان قومك بالشرك لهدمت البيت ولبنيته على قواعد إبراهيم فألصقته بالأرض وجعلت لها بابين شرقيًا وغربيًا» ثم إن ابن الزبير هدمه أيام ولايته وبناه على قواعد إبراهيم، ثم لما استولى عليه الحجاج هدمه وأعاده على الصورة التي هو عليها اليوم وهي بناء قريش. ولنعد إلى المقصود فنقول: {يرفع} حكاية حال ماضية، والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة معناها الثابتة، ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه فيرتفع كل منها بسبب وضع الآخر عليه، ورفع القواعد صريح فيما ذهب إليه الأكثرون من أن القواعد كانت موجودة وأن إبراهيم عمّرها ورفعها كما مر في الأحاديث. وإنما لم يقل قواعد البيت ليكون الكلام مبنيًا على تبيين بعد إبهام ففيه تفخيم لشأن المبين، ثم إن الله تعالى حكى عنهما ثلاثة أنواع من الدعاء في تلك الحالة؛ الأول: قولهما {تقبل منا} وقبول الله عمل العبد عبارة عن كون العمل بحيث يرضاه الله تعالى أو يثبت عليه، والأول ألذ عند العارفين من الثاني، شبه الفعل من العبد بالهدية، وإثابة الله تعالى عليه ورضاه به بالقبول. وقيل: إن بين القبول والتقبل فرقًا، فالتقبل عبارة عن تكلف القبول وذلك حيث يكون العمل ناقصًا لا يستحق أن يقبل، فاختير تقبل هضمًا وتواضعًا واستقصارًا. وقد يستدل بهذا على أن الفعل المقرون بالإخلاص لا يجب ترتب الثواب عليه وإلا لم يكن في طلبه فائدة، ويحتمل أن يقال: الطلب متوجه إلى جعله من جملة الأفعال المقرونة بالإخلاص، فكنى بطلب القبول عن ذلك ويؤكده قولهما {إنك أنت السميع} يعني سماع إجابة العليم بنياتنا. النوع الثاني {ربنا واجعلنا مسلمين لك} فإن أريد بالإسلام الدين والاعتقاد توجه الطلب إلى الثبات والدوام أي ثبتنا على ذلك وإلا كان تحصيلًا للحاصل بالنسبة إليهما وقتئذ، وإن أريد الاستسلام والخضوع والإذعان الكلي والرضا بكل ما قدر وأمر فتوجه الطلب إلى هذه الأمور أنفسها غير مفيد لأنها أمور خارجة عن الضبط لا تتيسر إلا بمجرد تيسير الله وتوفيقه بخلاف أصل الإسلام الذي وقع به التكليف فإنه مضبوط. وقد يظن أن للعبد اختيارًا فيه وإن كان اختياره على تقدير ثبوته ينتهي إلى مسبب الأسباب.وقوله: {واجعلنا} إما معطوف على {تقبل} وقوله: {إنك أنت السميع العليم} {ربنا} اعتراض للتأكيد وإما معطوف على محذوف أي ربنا افعل هذا واجعلنا.{ومن ذريتنا} من للتبعيض كما في قوله: {ومن ذريتي} [البقرة: 124].والأمة الجماعة من الناس، وقيل أراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم {مسلمة} يحتمل هاهنا أصل الإسلام والزيادة عليه أيضًا. وقيل: أسلم مطلقًا يفيد الإيمان والاعتقاد ومعدى باللام معناه الاستسلام والانقياد الكلي. طلب الإسلام لهم بعد ما طلب لهم الإمامة إظهارًا للشفقة. فالشفيق بسوء الظن مولع، ويحتمل أن يكون هذا الدعاء بيانًا لما أجمل هناك فيكونان واحدًا. وتخصيص الذرية بالدعاء من بين الخلائق لأنهم أحق بالنصيحة وأقوم {قوا أنفسكم وأهليكم نارًا} [التحريم: 6] ولأنهم أئمة بصلاحهم يصلح غيرهم وفي سدادهم يكون سداد من وراءهم. ولقد استجاب الله دعاءه فلم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا، ولم يزل الرسل من ذرية إبراهيم، وقد كان في الجاهلية زيد بن عمرو ابن نفيل وقس بن ساعدة. ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم على دين الحق قائلين بالإبداء والإعادة والثواب والعقاب يوحدون الله ولا يأكلون الميتة ولا يعبدون الأوثان {وأرنا} إن كان منقولًا عن رؤية العلم فمعناه علمنا أن شرائع حجنا كيف هي إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعو الناس إلى حجه، وإن كان منقولًا عن رؤية البصر- وهو الأظهر- ولذلك لم يتجاوز مفعولين ظاهرًا. فالمعنى بصرنا متعبداتنا في الحج. قال الحسن: إن جبريل أرى إبراهيم المناسك كلها حتى بلغ عرفات فقال: يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال: نعم، فسميت عرفات. فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق، فأمر جبريل أن يرميه بسبع حصيات ففعل فذهب الشيطان، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع وكل ذلك يأمره جبريل برمي الحصيات. وقيل: المراد العلم والرؤية معًا لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعًا وليس ببعيد، فإن اللفظ المشترك يصح إطلاقه على معنييه معًا وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز يصح إرادتهما معًا من لفظ واحد كالعقد والوطء من النكاح. غاية ما في الباب أن يكون هذا الإطلاق مجازًا، ومن الناس من يحمل المناسك على المذابح. فقد يسمى الذبح للتقرب نسكًا والذبيحة نسيكة، وليس لهذا التخصيص وجه فإن الذبح إنما يسمى نسكًا لدخوله تحت أصل معنى النسك وهو التعبد، فحمل المناسك على جميع أعمال الحج أولى قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا» بل لا يبعد أن يحمل على جميع ما شرعه الله لإبراهيم أي علمنا كيف نعبدك ومتى وأين نعبدك، وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك بذلك خدمة العبد لمولاه؟ {وتب علينا} التوبة منهما محمولة على ما عسى أن يكون فرط منهما من الصغائر عند من يجوّزها على الأنبياء، وعلى ترك الأولى ونحو ذلك عند غيرهم، ويمكن أن تكون التوبة منهما تصويرًا لأنفسهما بصورة النادم العازم على التحرز تشددًا في الانصراف عما لا يليق بهما.قال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة» وأيضًا لعلهما استتابا لذريتهما لعلمهما بأن فيهم ظالمين لقوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} وذلك لغاية شفقتهما عليهم. وباقي مباحث التوبة، قد مر في قصة آدم فليتذكر النوع الثالث {ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم} وفيه أمران: الأول: أن يبعث في تلك الأمة رسولًا ليبين لهم الشرع القويم وينهج الصراط المستقيم، والثاني: أن يكون ذلك الرسول منهم لا من غيرهم لأن الرسول والمرسل إليهم إذا كانوا جميعًا من ذريته كان رتبته أجل، ولأنه إذا كان منهم عرفوا مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته، ولأنه إذا كان منهم كان أحرص عليهم وأشفق من أجنبي لو أرسل إليهم. وأما الرسول فهو محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع المفسرين وهو حجة ولقوله تعالى في موضع آخر {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي» أما الدعوة فهذه، وأما البشارة فقوله تعالى في سورة الصف {ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6] وأما الرؤيا فما رأت آمنة وهي حامل أنه خرج منها نور أضاء ما بين الخافقين. وههنا نكتة وهي أن الخليل لما دعا للحبيب بقوله: {ربنا وابعث فيهم رسولًا} فلا جرم قضى الله تعالى حق الحبيب للخليل بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة يقولون في صلاتهم: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. ولهذا الذكر مناسبات أخر منها: أن الخليل دعا لنفسه بقوله: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} [الشعراء: 84] أي أبق لي ثناءً حسنًا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأجابه الله تعالى وقرن ذكره بذكر حبيبه. ومنها أن إبراهيم أبو الملة {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج: 78] ومحمد صلى الله عليه وسلم أبو الرحمة {بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب: 6] «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده» يعني في الرأفة والرحمة، فلما ثبت لكل منهما الأبوة قرن بين ذكرهما في التحية. ومنها أن إبراهيم منادي الشريعة {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27] ومحمد منادي الدين {سمعنا مناديًا ينادي للإيمان} [آل عمران: 193] ومنها أنه كان أول الأنبياء بعد الطوفان، ومحمد خاتم النبيين ورسول آخر الزمان. ومنها إن الخليل تبرأ عن سائر الأديان {إني بريء مما تشركون} [هود: 54] والحبيب تنزه عن جميع الأكوان {ما زاغ البصر وما طغى} [النجم: 17] ثم إن إبراهيم عليه السلام ذكر لذلك الرسول صفات أولاها {يتلو عليهم آياتك} فهو الفرقان المتلو عليهم، أو جميع ما بلغه من دلائل التوحيد وغيره «أوتيت القرآن ومثله معه».وثانيتها {ويعلمهم الكتاب} أي معانيه وحقائقه، وذلك أن التلاوة وإن كانت مطلوبة لبقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونًا من التحريف، ولأن لفظه ونظمه معجز وفي تلاوته نوع عبادة ولاسيما في الصلوات إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأسنى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام. وثالثتها قوله: {والحكمة} أي ويعلمهم الحكمة. وقيل: هي الإصابة في القول والعمل جميعًا، فلا يسمى حكيمًا إلا وقد اجتمع فيه الأمران فيضع كل شيء موضعه ولهذا عبر عنها بعض الحكماء بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية، ويناسبه قوله صلى الله عليه وسلم: «تخلقوا بأخلاق الله» وعن ابن وهب قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له. وعن قتادة وإليه ذهب الشافعي: هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر تلاوة الكتاب ثم تعليمه ثم عطف عليه الحكمة فيكون شيئًا خارجًا عنهما وليس ذلك إلا سنة الرسول، فإن الدلائل العقلية الدالة على التوحيد والنبوة وما يتلوهما مستقلة بالفهم فحمل اللفظ على ما لا يستفاد إلا من الشرع أولى. وقيل: هي الفصل بين الحق والباطل من الحكم. وقيل: المراد بالكتاب الآيات المحكمات، وبالحكمة المتشابهات. وقيل: هي ما في أحكام الكتاب من الحكم والمصالح. ورابعتها {ويزكيهم} لأن الإرشاد يتم بأمرين: التحلية والتخلية. فكما يجب على المعلم التنبيه على نعوت الكمال ليحظى المتعلم بها، يجب عليه التحذير عن النقصان ليتحرز عنها وذلك بنحو ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة من الوعد والإيعاد والوعظ والتذكير والتشبث بأمور الدنيا لتتقوى بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح، ولذلك مدح بأنه على خلق عظيم وأنه أوتي مكارم الأخلاق. وقيل: يزكيهم يطهرهم عن الشرك وسائر الأرجاس كقوله: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] وقيل: يشهد لهم بأنهم عدول يوم القيامة {ويكون الرسول عليكم شهيدًا} [البقرة: 143] وعن ابن عباس: التزكية هي الطاعة لله والإخلاص {إنك أنت العزيز} القادر الذي لا يغلب {الحكيم} العالم الذي لا يفعل إلا على وفق المصالح، وإذا كان كذلك صح منه إجابة الدعاء وبعثة الرسل وإنزال الكتب {ومن يرغب} الاستفهام فيه لتقرير النفي أي لا يرغب أحد. يقال: رغب عن الأمر إذا كرهه ورغب فيه إذا أراده. ومحل {من سفه} الرفع على البدل من الضمير في {يرغب} وذلك أنه غير موجب مثل هل جاءك أحد إلا زيد وسفه الإما متعد: ومعنى سفه نفسه امتهنها واستخفها فأصل السفه الخفة وفي الحديث: الكبر أن نسفه الحق وتغمص الناس لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إذالة نفسه وتعجيزها حيث خالف بها كل نفس عاقلة. وعن الحسن: إلا من جهل نفسه فلم يفكر فيها، فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنع على وحدانية الله تعالى وحكمته ويرتقي إلى صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وعن أبي عبيدة: أهلك نفسه وأوبقها. وقيل: أضل نفسه وإما لازم فمعناه سفه في نفسه فحذف الجار نحو زيد ظني مقيم أي في ظني وقيل: نصب على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه وهذا عند الكوفيين. فإن التمييز عندهم يجوز أن يكون معرفة. وفيه توبيخ لليهود والنصارى ومشركي العرب وتعجيب من حالهم، فإن أعظم مفاخرهم وفضائلهم الانتماء إلى إبراهيم، ثم إنهم لا يؤمنون بالرسول الذي هو دعوته ومطلوبه بالتضرع والإخلاص. فإن قيل: ملة إبراهيم عين ملة محمد في الأصول والفروع، أو هما متحدتان في الأصول كالتوحيد والنبوة، وأصول مكارم الأخلاق ولكنهما مختلفتان في فروع الأعمال ولا سبيل إلى الأول وإلا لم يكن شرع محمد صلى الله عليه وسلم ناسخًا لسائر الشرائع ولا إلى الثاني لأنه يلزم أن يكون محمد أيضًا راغبًا عن ملة إبراهيم، ولأن الاعتراف بالأصول لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: المختار اتحاد الملتين في الأصول فقط، لكن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأصول التي مهدها إبراهيم عليه السلام. والمراد بملة إبراهيم في الآية أصولها التي لا تختلف بمر الأعصار وكر الدهور، فلا يلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم راغبًا عنها لأنه أمر باتباعها {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا} [النحل: 123] روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرًا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمنا أن الله قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيًا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون. فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فنزلت. ثم إنه تعالى لما سفه من يرغب عن ملة إبراهيم بين السبب في ذلك فقال: {ولقد اصطفيناه في الدنيا} أي أخترناه للرسالة من دون الخليقة وعرفناه الملة الجامعة للتوحيد والعدل والإمامة الباقية إلى قيام الساعة حتى نال منزلة الخلة {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} فيلزمه ما يلزمهم من الكرامة وحسن الثواب فليتحقق كل ذي لب أن الراغب عن سيرة من هو فائز بسعادة الدارين لا رأي له والله الموفق. ثم بين سبب الاصطفاء فأعمل {اصطفينا} في {إذ قال} أي اخترناه في ذلك الوقت، ويجوز أن ينتصب بإضمار اذكر استشهادًا على ما ذكر من حاله كأنه قيل له: اذكر الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله {إذ قال له ربه} من باب الالتفات، ولولا ذلك لكان حقه أن يقال: إذ قلنا له، والأكثرون على أنه تعالى قال له ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس واطلاعه على أمارة الحدوث فيها، فلما عرف ربه قال له أسلم، فإنه لا يجوز أن يقول له قبل أن عرف ربه.ويحتمل أن يكون ذلك قبل الاستدلال، ولا يكون المراد منه نفس القول بل دلالة الدليل عليه كقولهم نطق الحال قال تعالى: {أم أنزلنا عليهم سلطانًا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} [الروم: 35] فجعل دلالة البرهان كلامًا، ويحتمل أن يكون هذا بعد النبوة والمراد استقامته على الإسلام وثباته عليه كقوله: {فاستقم كما أمرت} [هود: 112] أو المقصود الانقياد لأوامر الله تعالى والمسارعة إلى تلقيها بالقبول وترك الاعتراض بالقلب واللسان. وقيل: الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح وإن إبراهيم عليه السلام كان عارفًا بالله تعالى بقلبه فكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح. وفي تخصيص لفظ الرب بهذا الموضع بل بأكثر قصص إبراهيم إشارة إلى أن طريق عرفانه النظر في المربوبات فلا جرم وصل إلى الرب، وطريق عرفان محمد صلى الله عليه وسلم عكس ذلك الترتيب فلا جرم بدأ من الله {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] والأول طريق حسن {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53] لكن الطريق الثاني أحسن {أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: 53] ومن هنا يعرف أكملية محمد صلى الله عليه وسلم.فألف إبراهيم دلالة على استقامة سيرته، وميم محمد دليل على أنه مكمل الأوضاع وبه ابتدأ الأمر من حيث انتهى فتمت دائرة النبوة وحصلت الخاتمة. وكما أن ألف إبراهيم دليل على وجود الاستقامة {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت: 31] فألف إبليس دليل عدم الاستقامة {إلا إبليس أبى واستكبر} [البقرة: 34] والوجود خير والعدم شر فحصل من خاء الخير مع لام الابتلاء {وإذ ابتلى إبراهيم ربه} [البقرة: 124] تركيب الخلة {واتخذ الله إبراهيم خليلًا} [النساء: 125] ومن شين الشر مع دال الدوام على الكفر {وكان من الكافرين} [البقرة: 34] اسم الشدة {والكافرون لهم عذاب شديد} [الشورى: 26] ثم إن الخلة مأخوذة من التخلل بين الشيئين ومنه الخلال فلا جرم كان إبراهيم عليه السلام واسطة في الطريقة {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا} [النحل: 123] والمحبة مأخوذة من الحبة وهو خالص كل شيء وداخله، ومنه حبة القلب فلا جرم كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وحبيب رب العالمين وزبدة الكائنات وغاية الحركات، لولاك لما خلقت الأفلاك، أول الفكر آخر العمل «أول ما خلق الله تعالى نوري، أنا أول من ينشق عنه قبر، آدم ومن دونه تحت لوائي، أنا سيد المرسلين ولا فخر» محمد صلى الله عليه وسلم أبو الحقيقة وإن كان إبراهيم عليه السلام أبا الطريقة، والحقيقة لكونها مقصودة بالذات أقوى من الطريقة، لا جرم وقع الصلاة على إبراهيم في الصلاة تبعًا للصلاة على محمد «اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم» وأن الصلاة لا تصح بدون الصلاة على محمد بخلاف الصلاة على غيره. ولنعد إلى ما كنا فيه {ووصى} التوصية من جملة الأمور المستحسنة التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم. أوصيته بكذا ووصيته بمعنى، وأصله من وصيت الشيء بكذا بالتخفيف إذا وصلته إليه. وأرض واصية متصلة النبات، فالموصي يصل القربة الحاصلة له بعد الموت إلى القربات الحاصلة له في الحياة ويحمد الموصي على هذا الوصل بسبب الوصية. والضمير في بها قيل: يعود إلى الكلمة أو الجملة وهي أسلمت لرب العالمين، ونحوه رجوع الضمير في قوله: {وجعلها كلمة باقية} [الزخرف: 28] إلى قوله: {إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني} [الزخرف: 26] وقيل: الأولى أن يرجع إلى الملة لأنها مذكورة صريحًا في قوله: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم} ولأن الوصية بالملة جامعة لجميع أسباب الفلاح بخلاف الوصية بالشهادة وحدها اللهم إلا أن يحمل الإسلام على الانقياد الكلي. وفي الآية دقائق مرعية في قبول الدين منها: أنه لم يقل وأمر بها لأن الوصية عند أمارات الموت وعند ذلك يكون الاهتمام بالأمور أشد. ومنها أنه خص نبيه بذلك في آخر عمره مع أنه كان يدعو كل الناس إلى الدين، فدل على أنه لا شيء عنده أهم من ذلك. ومنها التعميم لجميع الأبناء وأنه لم يقيد الوصية بزمان أو مكان ولم يخلطها بشيء آخر، ثم نهاهم أن يموتوا غير مسلمين وكل هذه دلائل شدة الاهتمام بالأمور وهو المشهود له بالفضل وحسن السيرة، فيجب قبول قوله لكل عاقل وكذلك وصى بها يعقوب بنيه. وقرئ يعقوب بالنصب فمعناه وصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب قائلًا لكل منهما {يا بني} أصله يا بنون فأضيف إلى ياء المتكلم فسقطت النون وصار الواو ياء لأجل النصب فأدغم الياء في الياء {إن الله اصطفى لكم الدين} استخلصه واختاره لكم بأن أقام عليه الدلائل الواضحة ودعاكم إليه ومنعكم من غيره ووفقكم للأخذ به {فلا تموتن} فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام نحو «لا تصل إلا وأنت خاشع» لا ينهاه عن نفس الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في صلاته. والنكتة فيه إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فإنه في قوة قوله لجار المسجد: لا تصل إلا في المسجد. فكان موتهم لا على حال الإسلام موتًا لا خير فيه لأنه ليس بموت السعداء ومن حق هذا الموت أن لا يحل فيهم.{أم كنتم شهداء} يحتمل أن تكون {أم} منقطعة، ومعنى الهمزة فيها الإنكار لمجرد الحضور عند وفاته والخطاب للمؤمنين أي ما كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي، أو لأهل الكتاب المعاصرين كأنه قيل لهم: كيف تزعمون أن ما أنتم عليه دين الرسل ولم تشهدوا وصايا الأنبياء ولو شهدتم ذلك وسمعتم قولهم لنبيهم لظهر لكم حرصهم على ملة الإسلام والدين الحنيفي فرغبتم في دين محمد صلى الله عليه وسلم؟ ويحتمل كون {أم} متصلة على أن يقدر قبلها محذوف معناه، أتدعون على الأنبياء اليهودية {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت} قيل: أي إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد ودين الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه براء وفيه نظر، لأن {أم} المعادلة أحد الأمرين كائن فيها فقط، فإن كان الحضور ثابتًا لم تكن الدعوى ثابتة لكنها ثابتة ولهذا توجه الإنكار عليها، فالوجه أن يقال: المراد أن الحضور غير ثابت لتطاول الزمان، فإذن دعواهم يهودية الأنبياء دعوى بلا دليل فلا تسمع منهم على أنه تعالى نص على بطلانها بقوله: {إذ قال لبنيه} إلى آخره، ويتجه على هذا التقدير أن تكون {أم} منقطعة كأنه استفهم أولًا على سبيل الإنكار أي لم تدعون، ثم استأنف استفهامًا ثانيًا لتقرير النفي أي ما كنتم شهداء أو لتقرير الإثبات على أن أوائلهم قد شهدوا فيكون مؤكدًا لذلك الإنكار {ما تعبدون} أي شيء تعبدون. و{ما} عام لأولي العلم وغيرهم،و من مختص بأولي العلم ولهذا قال العلماء من لما يعقل. ومن خصص ما بغير أولي العقل قال: المراد السؤال عن صفة المعبود كما تقول ما زيد تريد أفقيه أم طبيب روي أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون الأوثان والنيران فخاف على بنيه بعد وفاته فقال لهم هذا القول تحريضًا على التمسك بعبادة الله لا أنهم كانوا يعبدون غير الله، لأن مبادرتهم إلى الاعتراف بالتوحيد تنافي ذلك، ولأن المشهور من أمر الأسباط أنهم كانوا قومًا صالحين، و{إبراهيم وإسماعيل وإسحق} عطف بيان لآبائك، وقدم إسماعيل لأنه أسن، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه لأن العمل أب والخالة أم لانخراطهما في سلك واحد هو الأخوة قال صلى الله عليه وسلم: «عم الرجل صنو أبيه» أي لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. وأيضًا أطلق اسم الأب على إبراهيم وهو جده فعن الشافعي أنه مجاز ولهذا قال: الإخوة والأخوات للأب والأم لا يسقطون بالجد، وإليه ذهب مالك وأبو يوسف ومحمد وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد، وقال أبو حنيفة: إنه حقيقة وإنهم يسقطون بالجد وهو قول أبي بكر وابن عباس وعائشة والحسن وطاوس وعطاء. ثم التعليمية قالوا: لا طريق لنا إلى معرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام لأنهم لم يقولوا نعبد الإله الذي دل العقل عليه بل قالوا: نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباؤك يعبدونه، فدل على أن طريق المعرفة هو التعليم. وأجيب بمنع دلالة الآية على ذلك بل لعل المعرفة حلت لهم بالاستدلال إلا أنهم اختصروا الكلام فتركوا شرح صفات الله وبيان ذلك، وأيضًا إنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب فكأنهم قالوا: لسنا نجري إلا على مثل طريقتك من اليقين بالله والإخلاص له في عبادته. وأيضًا لعل مرادهم نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك كقوله: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21] {إلهًا واحدًا} بدل من {إله آبائك} مثل {بالناصية كاذبة} [العلق: 15، 16] أو نصب على الاختصاص والمدح {ونحن له مسلمون} مذعنون أو مخلصون التوحيد ومحله النصب حالًا من فاعل {نعبد} أو من مفعوله لرجوع الضمير في {له} إليه، ويجوز أن يكون جملة معطوفة على {نعبد} أو جملة معترضة مؤكدة {تلك} إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون، {خلت} مضت وانقرضت والغرض أنه لم يبق منهم أثر سوى ما عملوا، ولهذا قيل {لها ما كسبت} أي ثوابه يريد أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه، فإن أنتم فعلتم ذلك فزتم كما فازوا، وإن أبيتم خسرتم أنتم دونهم {ولا تسئلون عما كانوا يعملون} لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا ينفعكم حسناتهم، وفيه تكذيب لليهود حيث قالوا إنهم يعذبون أيامًا معدودة لكفر آبائهم باتخاذ العجل. وفي الآية وعيد شديد للأبناء إذا لم يعملوا بعمل الآباء قال صلى الله عليه وسلم: «يا صفية عمة محمد يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئًا» «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» ثم الآية تدل على أن للعبد كسبًا ولكن الأئمة اختلفوا في تفسيره، فالأشعري على أنه لا تأثير لقدرة العبد في مقدور أصلًا، لأنه لو كان موحدًا لأفعاله لكان عالمًا بتفاصيل فعله وليس كذلك، ولما وقع إلا ما أراده العبد وليس كذلك، بل المقدور والقدرة كلاهما واقع بقدرة الله تعالى، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب، واعترض عليه بأن مقدور العبد إذا كان واقعًا بخلق الله تعالى، فإذا خلقه فيه استحال من العبد أن لا يتصف حينئذ به، وإذا لم يخلقه فيه استحال أن يتصف به، فأي معنى لكون العبد قادرًا عليه؟ وأيضًا الذي هو مكتسب العبد إما أن يكون واقعًا بقدرة الله فلا أثر للعبد فلا يكون مكتسبًا له وإن وقع بالقدرتين معًا فلا تكون قدرة الله تعالى مستقلة، والمفروض بالخلاف، فبقي أن يكون بقدرة العبد، وعن القاضي: أن ذات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى ثم يحصل لذلك الفعل صفة طاعة أو صفة معصية، فهذه الصفة تقع بقدرة العبد.وضعف بأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز، فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فعين المنهي عنه قد خلقه الله فيه وهذا تكليف ما لا يطاق، وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب. وزعم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني أن ذات الفعل تقع بالقدرتين، وزيف بأن قدرة الله مستقلة بالتأثير. ومنهم من زعم أن القدرة الحادثة مع الداعي توجب الفعل، فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود، والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة والداعية القائمتان به، وإلى هذا ذهب إمام الحرمين وهو مناسب لقول الفلاسفة. وزعم جمهور المعتزلة أن القدرة مع الداعي لا توجب الفعل بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما إن شاء فعل وإن شاء ترك وهذا هو الفعل والكسب. فهذا تقرير المذاهب، وقول الأشعري أقرب إلى الأدب، وقول إمام الحرمين أقرب إلى التحقيق لأن نسبة الأثر إلى المؤثر القريب لا تنافي كون ذلك المؤثر منسوبًا إلى أثر آخر بعيد، ثم إلى أبعد إلى أن ينتهي إلى مسبب الأسباب وفاعل الكل ومبدأ المبادئ وإليك الاختيار بعقلك دون هواك. اهـ.
|